هل العربية الباقية هي لهجة قريش أم لغة مشتركة ?
إننا عندما نتحدث عن مصطلح العربية الباقية فإننا نضع في المقابل منها لغة عربية لم تبقَ أو ما اعتمد على اصطلاحها بالعربية البائدة ومع كل قدم اللغة العربية فلقد سجل أول وجود للغة العربية في نقش على ضريح في الصحراء السورية يعود للعام 328 م ، أما ما بقي من العربية المتناقلة هو شعر ونثر شفوي يعود أغلبه إلى قبل قرن أو قرن ونصف من الزمان قبل بعثة الرسول الكريم "1".
وفي محاولة فهمنا لما قيل عنه عربية باقية وبائدة كان لا بد من وضع تعريف واضح لكلا المصطلحين قبل البدء في الحديث عن الباقية منهما. أما العربية البائدة أو ( عربية النقوش ) فهي ما انقرض من لغة العرب ولم يبق لها وجود فأصبحت بائدة لا وجود لها إلا في النقوش والآثار وتنقسم إلى ثلاث محاور رئيسية هي الليحانية والصفوية الثمودية وكل منها سميت باسم القبائل التي استخدمتها كون اللهجات لم يكن لها اسم ثابت فكانت تسمى بأسماء ناطقيها .
وبالانتقال للعربية الباقية فهي هي تلك اللغة التي كانت تستخدم في الجاهلية قبل الإسلام بما يقرب من 3 قرون وبقيت مستخدمة إلى يومنا هذا فكانت باقية لبقاء استخدامها ، ومع تعرضها للكثير من العوامل التي غيّرت من بعض مفرداتها أو تراكيبها لكنها حافظت على شكلها الرئيسي وقواعدها الأساسية بحيث مع كل التغييرات التي حصلت لها بقيت محافظة على اسمها باللغة العربية وأهم العوامل التي تعرضت لها هذه اللغة هو توحدها من قبل التأثير السياسي والاقتصادي والديني للقرشيين , بعد أن كانت متفرقة بلهجاتها بين الحجازية والبدوية وغيرها ، ولعل جمع الشعر الجاهلي هو من بيّن هذه العربية الباقية ولكن أهم العوامل التي ساعدت على الحفاظ عليها هو القرآن الكريم والأحاديث النبوية وما تناقل من أدب عربي خلال العصور الماضية .
ولكن ذلك يدفعنا لنسأل هل العربية الباقية هي نتاج توحد للهجات العربية في لهجة واحدة وهي لهجة قريش وعلى هذا نزل القرآن الكريم أم أن اللغة العربية في بادئتها كانت واحدة ووصلت لهذا التنوع فيما بعد وجاء القرآن جامعاً لكل تلك اللغات المشتركة فيما بينها . ولعل هذا التساؤل بالذات كان محط اختلاف العلماء وتفرقهم فكانت هنالك العديد من الآراء التي تضاربت فيما بينها بعضها يرى سيادة لهجة قريش على كل العرب وبعضهم يرى سيادتها في عصر ما قبل الإسلام لا بعدها وبعض الآراء وجود اللهجات المتعددة التي جاء القرآن جامعاً لها ، نستعرض بعضاً منها للتدليل على ما كان منهم:
يقول ابن جنيّ في الدلالة على سيادة قريش على غيرها من اللهجات "حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي عباس أحمد بن يحيى ثعلب قال : ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وجرفية ضبة وتلتلة بهراء " 2" وأيّده في ذلك الصاحبي حين قال " جمعت قريش ما تخيرت من لغة العرب فصارت بذلك أفصح العرب ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس مثل : تِعلمون ونِعلم ، شِعير وبِعير " 3 " .
أما من يرى بأن لهجة قريش سادت في فترة ما قبل الإسلام كان منهم عميد اللغة العربية طه حسين فيقول أن الإسلام أخضع العرب لسلطان لهجة قريش ، ثم يتوسع في القول بأن لهجة قريش سادت العرب قبيل الاسلام ، ولكنه يقول بسيادة لهجة على الحجاز فقط ، كما أنه يتحدث عن أسباب هذه السيادة وأنه ليس غريبا أن ينزل القرآن مؤيدا هذه اللهجة . وسار قبله هذا المسار مصطفى صادق الرافعي في قوله الذي يعتبر أن اللغة العربية مرت بأدوار ثلاثة الدور الأول دور القبيلة الأم ، الثاني دور القبائل مجتمعة والثالث دور قريش وحدها في صناعة لهجة تضم أجود ما في السنة القبائل وبها نزل القرآن الكريم .
وفي انتشار لهجة قريش يقول الدكتور على عبد الواحد وافي: "أصبح العربي أيا كانت قبيلته يؤلف شعره وخطابته ونثره الأدبي بلهجة قريش " " 4" إذا ليس من المستهجن أن ينزل النص القرآني بلهجة قريش ما دام العرب ارتضوها .
ولنزول القرآن بلهجة قريش دليل عند الدكتور وافي فيقول أيضا إن لهجة قريش تغلبت على اللهجات الأخرى قبل البعثة النبوية بزمن غير قصير فكان القرآن سائراً مع اللهجة الأقوى فنزل حسبما كان الواقع في تلك الفترة كما يقول الدكتور صبحي الصالح بأن الإسلام حين ظهر وجد لغة مثالية مصطفاة موحدة جديرة أن تكون أداة التعبير عند العرب فكانت لغة القرآن أيضا "5 " .
ومع كل تلك الآراء التي سارت نحو وضع لهجة قريش سائدة على كل اللهجات وبذلك جاء القرآن داعما للهجة الأقوى كان هنالك آراء ترى أن القرآن جاء بلهجة مشتركة من ضمنها لهجة قريش . فيقول عبده الراجحي في نقض للآراء السابقة بأنها تذهب إلى أن لهجة قريش هي اللغة المشتركة الفصحى، لا تقوم على أساس لغوى علمي صحيح، لأننا لا نستطيع أن نحكم على لغة من اللغات من أقوال الرواة عنها
ويدعم رأي الراجحي ما قال به ولنفنسون من أن اعتبار القرآن نزل بلهجة قريش دون غيرها من القبائل فهذا شيء يضيق رقعة فاهمي القرآن "6" . أما نودلكه فلقد رأى رأياً جديداً يرى أن لهجة قريش سادت فيما بعد الإسلام بعصور فيقول "إن فكرة سيطرة لهجة قريش ظهرت في العصر الأموي نتيجة أسباب سياسية".
- مناقشة الآراء الواردة حول هذه المسألة
مهما يكن من أمر حول اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم فإن الكلام يقودنا إلى نظريتين أساسيتين ، الأولى تقول بأن القرآن نزل بلهجة قريش الصرفة ولا علاقة لقبائل العرب بهذه اللهجة ، والثانية تقول بأن القرآن نزل بلهجة مشتركة .
في الحقيقة إن التعصب للهجة قريش هو تعصب في غير موضعه ، كذلك اعتبارها لهجة عادية كسائر اللهجات هو اعتبار في غير موضعه أيضا . لو نظرنا مثلاً إلى المعلقات الجاهلية الشهيرة لما وجدناها تختلف من حيث نوع اللغة والمفردات عن مفردات القرآن بالشيء الكثير وإذا علمنا أن أصحاب المعلقات جميعهم ليسوا من قريش فالعقل يقودنا إلى احتمالين :
_ الأول أن العرب كلها كانت تكتب أدبها وشعرها وخطابتها بلهجة قريش.
_ الثاني أن العرب قبل الإسلام والقرآن لغة أدبية تعارف عليها الجميع بها كانوا يقرضون شعرهم ويلقون خطبهم في الحروب والمواسم .
إذا ما تفحصنا نفسية العربي في الجاهلية ، ومن ثم علاقتة بقبيلته التي كانت في ذاك الوقت علاقة المواطن بالدولة والوطن ، فالقبيلة كانت في سالف العصر وطن العربي إليها ينتمي وبلسانها ينطق وعن حماها يقدم الغالي والنفيس ، وإذا ما تفرسنا في عادات العرب قبل الإسلام وأن الواحد للكل والكل للواحد ، تبين لنا أن العرب كانوا متعصبين لقبائلهم جداً ، وبالرغم من أنهم كانوا ينظرون لقريش على أنها ذات قدسية ومكانة ولكن ليس لدرجة أن يتخلوا عن لهجتهم كرمى للهجة قريش وإن كانت تحضن الأصنام وترعى أمور ديانتهم . ضِف إلى ذلك أن من قبائل العرب من تنصر وهؤلاء لم يكونوا ينظرون لقريش تلك النظرة التي ينظر بها عبدة الأوثان .
من هنا يتبين لنا أن القرآن الكريم إنما نزل بلهجة مشتركة ساهمت قريش أكثر من غيرها بتشكيل هذه اللهجة ، فكما سبق إن العربية التي نعرفها مرت بثلاثة أداور ، دور القبيلة الأولى ، ودور القبائل مجتمعة، ثم دور قريش وحدها . فالقائلين بنزول القرآن بلهجة قريش إن قصدوا بقولهم أن قريش أكثر القبائل فضلاً في تشكيل اللهجة المشتركة فقد صدقوا ، وإن قالوا أنه نزل بلهجة قرشية صرفة لا علاقة للقبائل بها فإنّ هذا تعصب في غير موضعه ويمكن دحضه بالأدلة وليس أدل على ذلك من النبر في الهمز وهو أغلب القرآن بينما قريش لم تكن تنبر بالهمز .
أما القائلين بلغة مشتركة فعليهم ان لا ينسوا فضل قريش في تشكيل هذه اللغة ، وإن هضم دور قريش وتأثيرها على العربية الباقية التي نزل بها القرآن الكريم إنما هو مجافاة للمنطق والوقائع. ونفهم مما سبق أن الذين تعصبوا للهجة قريش إنما انطلقوا من ثلاثة بواعث رئيسة :
- حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكونه قرشي.
- تفسير بعض النصوص على ظواهرها ، في حين إن الأمر يترك لأهل الذكر من أصحاب اللغة فقوله تعالى : " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا " 7 " لا يعني بأية شكل من أشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم لهجة قريش الصِرفة الخالية من تفاعلها مع لهجات العرب على مدى سنوات طويلة ، أصلا هذا التفسير يخالف مفهوم تطور اللغات وتفاعلها .
- لأسباب سياسية بدأ ظهورها في عهد بني أمية .
أما الذين تعصبوا ضد لهجة قريش فالحقيقة لا نعرف من أية خلفية انطلقوا في تعصبهم هذا ، وليس أدل على ذلك من تفسيرهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا افصح العرب بيد إني من قريش "
والعرب تستخدم بيد أن بمعنى غير أن ، وتستخدمها بمعنى لان وهذا لفظ قريش ، فالبعض أخذ من هذا القول ذريعة ليقول أن النبي القرشي يستغرب كيف أنه أفصح العرب وهو قرشي ، طبعا لا يحتاج الأمر لكثير وقت لتبيان هذه العصبية العمياء .
وما دام سياق الحديث حول علاقة القرآن بالعربية ، فلا بد من الإشارة إلى أن القرآن يوم اتخذ العربية لغته ، إنما أخرج العربية من الصحراء إلى العالمية ، وكلما اتسعت رقعة الدولة ، وزاد عدد رعاياها كان الإقبال على العربية يزداد إذ أن النص القرآني لا يصح التعبد بمعناه بل بلفظه . كما أن التأثر بالنص القرآني لم يقتصر على علوم اللغة وحدها بل إن معظم العلوم الأخرى كعلم الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام وغيرها ارتبطت بالنص القرآني الذي احتاج إلى تعمق في دراسة العربي للإحاطة بجوانب النص .
كما لا بد أن نذكر أن الإسلام المُستقى من النص القرآني والسنة المطهرة أضاف إلى العربية وحذف منها، فلم يتعامل معها على أنها حقيقة قائمة عليه أن يقبل بها فظهرت مفردات جديدة منها :
- الجوائز وهي للعطايا كان يقول القائد من جاز هذا النهر فله كذا وكذا ولم يكن مستخدما قبل الإسلام " 8"
- المحرم ، وهو أول شهر من أشهر السنة القمرية وكان في الجاهلين يعرف بأول الصَفرين من الأشهر الحرم " 9 "
- الجاهلية وهو لفظ أطلقه الإسلام على الفترة الزمنية التي عاشها العرب قبل الإسلام.
- التفث ، وهو في المناسك ما كان من نحو قص الأظافر والشارب وحلق الرأس الخ.
- الصير ، وهو شق الباب ، ولم تعرف العرب هذا اللفظ قبل قوله عليه الصلاة والسلام : " من نظر من صير باب فعينه هدر " .
- كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقوالا لم تظهر في العربية قبل أن يقولها وهي ماضية إلى يوم القيامة :
" مات حتف أنفه "
" لا ينطتح فيها عنزان "
" الآن حمي الوطيس "
" لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "
" الحرب خدعة "
ومن المفردات التي ألغاها القرآن الكريم :
- المرباع وهو ربع الغنيمة وكان يستولي عليه سيد القبيلة.
- المكس وهي دراهم كانت تؤخذ من الباعة في الأسواق.
- الصرورة وهو من لم يحج.
- النوافج وهي الإبل التي تساق في الصداق.
- أسماء الأيام :
* شيار هو السبت.
* أول هو الأحد.
*أهون هو الإثنين.
*جبار هو الثلاثاء.
* دُبار هو الأربعاء.
*ومؤنس هو الخميس.
*وعَروبة هو يوم الجمعة.
0 komentar:
Posting Komentar