بسم الله الرحمن الرحيم
النّص القرآنيّ بين لهجةِ قُريشٍ ولهجاتِ القبائل الأخرى.
النّص القرآنيّ بين لهجةِ قُريشٍ ولهجاتِ القبائل الأخرى.
طالما كانتْ لغةُ النصِّ القرآني محطَّ رحالِ الدارسين ، كل يسلِّطُ الضوءَ عليها من زاويةٍ يراها جديرةً بالبحثِ والتحليل .
فبأيِّ اللهجاتِ نزل النصُّ القرآني ؟
هل بلهجة قريش ؟
ماذا عن لهجات القبائل الأخرى كهذيل وتميم وأسد وغطفان وسائر عرب الجزيرة الأقحاح الذي يُعتدُّ بلغتهم ؟
إلى أي حد تشبه لغة المعلقات لغة النص القرآني مع العلم أن جميع أصحاب المعلقات ليسوا من قريش!
هل يمكن الحديث عن لهجات أخرى بوجه لهجة قريش وقد اعتلت هذه القبيلة عرش اللغة قبل أن يكرمها القرآن باعتماد أكثر مفرداتها كمناط للنص القرآني عن طريق سوق عكاظ ؟
ألم يكن هناك أسواق أخرى على شاكلة سوق عكاظ يقرض فيها العرب الشعر ؟
بالمقابل هل يستطيع أحد ينكر دور هذه القبيلة العظيمة على العرب لغة ، وفكراً ، وحضارة ، ونسباً ؟
إذا كان لا بد من الحديث عن خلاف في اللهجة ، أي في بعض المفردات من حيث اللفظ والدلالة ، فأي أمثلة يمكن سوقها عن هذا الاختلاف ؟
مقدمة .
الفصل الأول : في مفهوم اللغة واللهجة.
أ . الفرق بين اللغة واللهجة.
ب . في نشوء اللهجات وصعوبة دراستها ، ومصادر الدراسة.
ج . العوامل التي ساهمت في بروز لهجة قريش.
- العامل الجغرافي.
- العامل الديني.
- العامل الثقافي.
- العامل الاقتصادي.
الفصل الثاني : الاختلاف بين لهجة الحجاز ( قريش ) ولهجة نجد ( تميم ).
أ . المستوى الصوتي.
ب . المستوى الصرفي والنحوي.
ج . المستوى الدلالي.
الفصل الثالث : العربية الباقية ولهجاتها.
هل العربية الباقية هي لهجة قريش أم لغة مشتركة.
- مناقشة الآراء الواردة حول هذه المسألة.
الفصل الرابع : الخصائص الصوتية للهجات العربية في القراءات القرآنية.
أ . حديث القراءات السبع.
ب . القراءات التي تصلح لدراسة اللهجات من خلالها.
ج . أهم الخصائص الصوتية في القراءات.
الفصل الخامس : بعيداً عن لهجة قريش
أ . هل في القرآن ألفاظ غير عربية؟
- مناقشة الآراء الواردة حول المسألة.
ب. أهم المفردات القرآنية التي لم تنزل بلهجة قريش.
الفصل الأول : في مفهوم اللغة واللهجة
أ . الفرق بين اللغة واللهجة.
الذي يعنينا في هذا الباب هو أن ندرك العلاقة بين اللغة واللهجة، فالعلاقة بينهما هي علاقة العام بالخاص ، ويصح أن نقول علاقة الجزء بالكل ، فاللهجة هي جزء من اللغة ، فلا يصح أن نقول لغة قريش أو لغة تميم أو لغة هذيل أو لغة طيء ، بل إن هذه لهجات تنتمي إلى لغة واحدة هي اللغة العربية ، وإنَّ اختلافها على المستوى الصوتي أحيانا أو على مستوى الصرف والنحو والدلالة أحيانا أخرى هو ما جعل منها لهجات .
- اللغة.
اللّغَة أصوات يعبّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم . وقيل ما جرى على لسان كلّ قومٍ . وقيل الكلام المصطلح عليهِ بين كل قبيلة . وقيل اللفظ الموضوع للمعنى. قيل اشتقاق اللغة من لَغِيَ بالشيءِ أي لهج بهِ. وأصلها لُغْيٌ أو لَغْوٌ ( لا لُغْوَة كغُرْفَة خلافًا للمصباح ) فحُذِفت لامها وعُوِّض عنها بالتاءِ كما في ثُبَة وبُرَة ولا يبعد أن تكون مأخوذة من لوغوس باليونانية ومعناها كلمة. "1" وبعيداً عن المعاجم فقد كثرت التعاريف حول اللغة ، وتختلف هذه التعاريف فيما بينها في بعض التفاصيل، غير أنّه من المؤكد أن التعريفات جميعها تتفق فيما بينها على أمور ثلاثة :
- اللغة ذات طبيعة صوتية.
_ للغة وظيفة اجتماعية.
- تختلف اللغة وتتنوع بتنوع المجتمعات الإنسانية.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الخصائص اشتمل عليها تعريف اللغويّ العربيّ الفذ ابن جني للغة ، قبل ألف عام من اتفاق اللغوين المحدثين عليها حيث قال : " هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " "2"؟ وجاء في تعريف اللغة أيضاً عند العالم الأمريكي إدوارد سابير بأنها "وسيلة إنسانية خالصة، وغير غريزية إطلاقا ، لإيصال الأفكار ، والانفعالات والرغبات ، بواسطة نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية " " 3 ". واعتبر دي سوسير أن اللغة منظومة مستقلة من العلامات. ومن هذا المنطلق سعى الألسنيون إلى فهم اللغة وتفسيرها انطلاقا من ظواهر لغوية بحتة. ويلاحظ الألسنيون أن العلامة ليست بالضرورة لغوية ولكنها ميزة إنسانية فهي أولا فعل الترميز بما أنها تمكننا من استبدال واقع غائب بتمثل اصطلاحي .
كما ويدل استخدام مصطلح اللغة عند علماء العرب القدامى على أنّهم كانوا يعنون به الاشتغال بالمفردات وتصنيفها في كتب ومعاجم ولعل هذا ما يفسر قول ابن مناذر :" كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها وكان أبو مالك يجيب فيها كلها " " 4 "
فاللغة اذا بحسب تعريفاتهم تعني معرفة الالفاظ ودلالاتها . وبهذا المعنى كانت كتب الطبقات تميز بين المشتغلين بالنحو من جهة والمشتغلين باللغة من جهة أخرى ، لهذا تعتبر كتب الطبقات سيبويه والمبرد والكسائي من النحاة ، بينما تعتبر الأصمعي من اللغويين . وقد ظل استخدام اللغة بهذا المعنى قروناً طويلة ، وظل اللغوي هو الباحث في المفردات جمعاً ، وتصنيفاً وتأليفا . فالأصمعي لغوي لأنه جمع ألفاظ البدو وسجلها في رسائل لغوية مصنفة في موضوعات دلالية ، والخليل لغوي لأنه أول من أنشأ معجماً .
- اللهجة.
اللهجة هي مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة " 5 " . والصفات اللغوية المقصودة في هذا التعريف هي صفات تتعلق بتدقيق مخارج الحروف وكيفية نطقها ووضع أعضاء النطق مع بعض الأصوات ومقياس أصوات اللين وكيفية إمالتها وكيفية التفاعل بين الأصوات المتجاورة حين يتأثر بعضها ببعض . فإذا تفشت هذه الصفات في بيئة جغرافية معينة وسمتْ لهجة أهل هذه البيئة بما يميزها عن سواها من لهجات البيئات المجاورة . وقد تتسع هذه السمات قليلاً لتشمل بعض المفردات والتراكيب ، ولكن إن اتّسعت رقعة التمايز لدرجة اختلفتا اختلافا بيناً من حيث المفردات ودلالاتها ومن حيث صيغ الأفعال وأنواع الجموع وأداة التعريف وقواعد النحو تحولتا إلى لغتين " 6 " .
إذا نظرنا-مثلاً-إلى لهجة أهل البندقية و لهجة أهل صقلية باعتبارهما لهجتين (لا لغتين) إيطاليتين؛ لكن أهل البندقية لا يفهمون أهل صقلية, و كذلك أهل صقلية لا يفهمون أهل البندقية فالتفاهم بينهما غير ممكن, لهذا من الخطأ لغوياً اعتبارهما لهجتين وإن انتمتا إلى بلد واحد ! و قل مثل هذا في اللهجات الرومانية أي: الإيطالية, والفرنسية, والإسبانية؛ فإنها تسمى لغات لا لهجات, و هي في الواقع التاريخي لهجاتٌ لاتينية, كذلك العربية و العبرية و السريانية, والحبشية فإنها لغات في نظرنا إليها, رغم أن التاريخ يثبت أنها لهجات انحدرت من أم واحدة هي السامية .
وقد عرفت اللغة العربية اختلاف اللهجات منذ العصر الجاهلي فقد كان لكل قبيلة من قبائل العرب الكبرى ( قريش ، تميم ، أسد ، غطفان ، هذيل ، طيء ... ) لهجتها المختلفة عن لهجات سائر القبائل اختلافات يسيرة تتعلق في :
_ بالحركات نحو " نستعين " وقد وردت النون مفتوحة بلغة قريش وأسد ومكسورة بلغة غيرهم .
_ بالحركة والسكون نحو " وهو " بضم الهاء وسكونها .
_ بتحقيق الهمزة أو تسهيلها نحو الذئب أو الذيب.
_ بالتقديم والتأخير نحو صاعقة و صاقعة .
_ بالفتح والإمالة ، والإمالة هي الجنوح بالحرف نحو الكسر.
_ بالتذكير والتأنيث فبعض القبائل تقول " هذه البقر" وأخرى تقول " هذا البقر" .
_ بالجمع نحو أسرى و أسارى .
والجدير بالذكر أن مصطلح اللهجة لم يستخدمه اللغويون القدماء ، بل استخدموا مصطلح اللسان ، فقالوا لسان قريش وتميم . وأحيانا كانوا يستخدمون مصطلح اللغة وهم يعنون به اللهجة كأن يرد في كتب اللغة، وهذا اللفظ بلغة هذيل وذاك بلغة ثقيف .
ب . في نشوء اللهجات وصعوبة دراستها ، ومصادر الدراسة
أشرنا سابقاً إلى تعريف اللهجة، وقلنا أيضا أن العرب القدامى أطلقوا مصطلح اللغة وهم يريدون به اللهجة، كما استخدموا أيضا مصطلح اللحن وهم يريدون به اللهجة أيضا. ولا بأس من التأكيد مجدداً على العلاقة بين اللغة واللهجة مستخدمين قول الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه " في اللهجات العربية " حيث يقول :العلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص ، وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات لكل منها خصائصها ولكنها تشترك جميعا في مجموعة من الظواهراللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات مع بعضهم وفهم ما قد يدور بينهم من حديث فهماً يتوقف على قدر الرابطة التي تربط بين هذه اللهجات ."
أما عن عوامل نشوء اللهجات فيرُدها علماء اللغة على عاملين رئيسين :
1 . الانعزال الجغرافي والاجتماعي بين بيئات الشعب الواحد , وذلك عندما تفصل العوامل الطبيعية من جبال أو أنهار أو صحارى أو نحوها بين بيئات اللغة الواحدة فتنعزل إحداها عن الأخرى وتتطور كل بيئة بظروف اجتماعية مختلفة عن الأخرى . الأمر الذي يسهم في جنوح لسان القوم نحو صفات لغوية هي ما نسميها في علم اللغة باللهجة !
2 . الصراع اللغوي الناجم عن الغزو أو الهجرة أو التجاور. وهو صراع لا تكاد تنجو منه لغة من اللغات ." إن تطور اللغة المستمر في معزل عن كل تأثير خارجي يعد أمراً مثالياً لا يكاد يتحقق في أية لغة، بل على العكس من ذلك فإن الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة لها كثيراً ما يلعب دوراً هاماً في التطور اللغوي " " 7 "
صار لزاما الآن أن نذكر أن صعوبات جمة تواجه دارس اللهجات العربية القديمة وأهمّها :
أ . أنّ علماء اللغة العرب القدماء لم يهتموا إلا بلهجة قريش ، أما سائر اللهجات فقد مروا عليها مرور الكرام ، ولا نبالغ إذ نقول أنّه لولا القراءات القرآنية لاندثرت هذه اللهجات في طيات الزمن .
ب . انتبه العلماء إلى اللهجات في مؤلفاتهم ولكن وقعوا في لغط كبير حين لم يهتموا بنسبة اللهجة إلى أصحابها ، فمثلا كانوا يذكرون لفظة قريش ، ثم يذكرون اللفظة الأخرى ويقولون وهي لغة ، دون الاهتمام بنسبها لقوم محددين .
ج . إذا أردنا دراسة اللهجات فإننا لن نجد في المكتبة العربية كتاباً قديماً يُعنى باللهجات ، وبالفروق بينها فعلى الدارس أن ينقب ثنايا الكتب والمعاجم عن أية إشارات تثبت أن هذه الألفاظ هي لهجات بل " إن هذه الدراسة تتطلب تصفح جميع المؤلفات العربية لأن اهتمام العرب بالمسائل للغوية لم يقتصر على اللغويين والنحويين ، فإننا نجد الاهتمام عند الجغرافيين والمؤرخين ، بل عند الفلاسفة والأطباء والرياضيين بمناسبة وغير مناسبة ولذلك فإننا كثيراً ما نعثر على ملاحظات مهمة عن اللهجات العربية في غير كتب اللغويين " " 8 "
ومن الجدير ذكره في هذا المجال أنّ أهم مصادر دراسة اللهجات العربية هي :
- القراءات القرآنية .
- المعاجم.
- كتب النوادر.
- كتب الامثال.
- كتب النحو.
- كتب اللغة .
أ . تعتبر القراءات القرآنية من أهم مصادر دراسة اللهجات على الإطلاق ، وهذا يعود للمنهج الذي اتبعه أصحاب القراءات ، وهو منهج يمتاز بدقته عن كل ما تبقى من مناهج ومصادر لارتباطه الوثيق بالنص القرآني ، ولشدة عناية المسلمين بعلم القراءات واشتراطهم التلقي والعرض في عملية النقل وذلك أن أصحاب القراءات " لم يكتفوا بالسماع من لفظ الشيخ في التحمل ، وإن اكتفوا به في الحديث ، وقالوا : إن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع لفظ الشيخ يقدر على الأداء بل لا بد من قراءة الطالب على الشيخ " " 9 "
ب . تعتبر المعاجم من المصادر المهمة أيضا في دراسة اللهجات ولكن لا بد أن نذكر أن المعاجم ليست على نوع واحد، نذكر أمثلة على ذلك :
- كتب اللغات ، وهو عنوان مشترك لأكثر من كتاب لم يصل من هذه الكتب شيء ولكننا عرفناها بحديث اللاحقين عنها، ومن كتب اللغات كتاب يونس بن حبيب ، والأصمعي ، وأبو زيد ، وابن دريد.
-"كتب لغات القرآن ، وأيضا هو عنوان مشترك لأكثر من مؤلف نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ، الفراء ، والهيثم بن عدي " " 10 ". وإذا كانت كتب لغات القرآن _ ولاحظ ذكر القدماء اللغة بمعنى اللهجة _ من أهم مصادر دراسة اللهجات فمن المؤسف أن نعرف أنه لم يصل من هذه الكتب الكثيرة إلا كتابان.
- المعاجم اللغوية العامة كلسان العرب لابن منظور ، والجمهرة لابن دريد.
- المعاجم اللغوية الخاصة ، والمقصود بها تلك التي ألفها صاحبها في موضوع واحد ككتاب النخل والكرم للأصمعي.
ج. كتب النوادر ومن أشهرها نوادر ابن الأعرابي ، ونوادر أبي زيد " ويتميز كتاب أبي زيد بأنه يعزو اللهجات إلى أصحابها فيقول قال فلان من تميم ، أو فلان الهذلي نسبة إلى هذيل ، أو راجز من حمير ... " " 11 ".
د . أما كتب الأمثال فيعتبرها الدكتور عبده الراجحي مصدراً غنياً لدراسة للهجات لأنها تُقال بلسان القوم وتنتقل كما هي دون إخضاع اللهجات الأخرى هذه المقولة للهجتها بل تمضي مثلاً كما هي .
هـ . كتب النحو أيضا من الكتب المهمة لدراسة اللهجات ، ومن الحري ذكره أن سيبويه نقل بعض اللهجات وأرجعها إلى أصحابها ولكن لم يفعل ذلك في مواضع كثيرة بل اكتفى بعرض القول وركز أكثر على القياس لأن غايته النحو ومما يغفر له أنه من النحاة لا من اللغويين .
ومن الملاحظ أن النحاة المتأخرين كابن مالك كانوا أكثر اهتماماً باللهجات من النحاة المتقدمين .
ج . العوامل التي ساهمت في بروز لهجة قريش
- العامل الجغرافي.
- العامل الديني.
- العامل الثقافي.
- العامل الاقتصادي.
هنالك ارتباط وثيق بين لغة القرآن وتعدد اللهجات في الجزيرة العربية فلم يكن القرآن بكل جمله ومفرداته قد نزل بلهجة قبيلة دون غيرها وإنما نزل بأكثر من لهجة بغية أن يكون كتاباَ شاملاَ لكل ما تعارف عليه العرب من كلمات في ذلك الوقت وعلى الرغم من اختلاف وتعدد اللسان العربي، والذي يعود إلى عدة عوامل جعل من اللغة العربية في منطقة الجزيرة العربية تنتقل من شكلها الأولي البسيط وتبدأ بعملية من التعدد في اللهجات المندرجة تحت تلك اللغة حتى أصبحت أكثر تعقيداَ وأكثر كلمات وأعلى مستوى ولعل ذلك يندرج تحت ما يسمى بالتطور اللغوي إلى أن وصلت اللغة العربية إلى شكلها الأكبر والأقوى في القرن السابع الميلادي وهو زمن نزول القرآن. " 12 " .
إلا أن قريشاً كانت لها السيادة في اللهجات العربية فلقد استطاعت قريش أن تخرج لهجتها الأصلية من مكامن الزلل التي تقع به اللهجات الأخرى للعرب ، وكانت قريش من القبائل التي تصهر في بوتقة لهجتها لهجات العرب الآخرين فتنتقي الكلمات وتستحسنها فتجمعها في لهجتها وبذلك تشكلت لهجة لقريش على مرور الزمن أفصح من أي لهجة أخرى مع اقترابها من كافة لهجات القبائل في الجزيرة العربية "13 " ، ولقد أورده السيوطي في المزهر "كانت العرب تحضر المواسم في كل عام، وتحج إلى البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا بذلك أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ" " 14 " ،ولذلك كان يعتبر أهل قريش أفصح العرب وأفضلهم لساناً ولقد دأب العلماء السابقون على اعتبار لهجة قريش هي الفصحى ولا شيء سواها. ويرى الدكتور إبراهيم أنيس أن هذه اللغة توافر لها الشرطان الأساسيان اللذان لا تكون اللغة مشتركة إلا بهما.
وهذان الشرطان هما:
أ ـ أن تمثل مستوى لغويًا أرقى من لهجات الخطاب في غالب الأحوال، ومن ثم يتخذها الناس مقياسًا لحسن القول، وإجادة الكلام.
ب ـ وهي كذلك - كما يرى هنري سويث - لا يستطيع السامع أن يحكم على المنطقة التي ينتمي إليها المتكلم بهذه اللغة " 15 " .
قال أبو نصر الفارابي: "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عند النطق"
فلم تكن تسمع في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفيَّة قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي تسمعه من أسد، وقيس مثل: تِعلمون، ونِعلم، ومثل: شِعير، وبِعير .
ونسأل هنا سؤالاً مهماً كيف تشكلت لقريش كل هذه الفصاحة ؟ ولماذا كانت قريش أفصح العرب؟ وكيف استطاعت قريش أن تزاوج لهجتها باللهجات الأخرى ؟.
أعتقد أن هذا له عدّة عوامل رئيسية سنأخذها بعين التحليل البسيط لبيانها:
أ. العامل الجغرافي :
يقول أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ "وقريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة"، فلقد كانت قريش ذات موقع جغرافي يبعد عن كل ما يمكن أن يعكّر صفو لغتها فلم تكن قريبة من بلاد الروم ولا من بلاد فارس فلا تختلط لغتها العربية بأي لغة أخرى مما قد يؤدي إلى انحراف لهجتها عن اللغة الأصلية ناهيك على أنها لم تتعرض لأي احتلال روميّ أو فارسيّ مما جعلها تحمي لغتها بشكل سليم جداً والإبقاء على نقاء ما لديها.
ب. العامل الديني :
يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز لنبيّه إبراهيم بعد أن أتمّ بناء الكعبة الشريفة في أرض الحجاز " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍيَأْتِينَ من كُلِّ فَجٍّ عَميق" (الآية 27 ،سورة الحج)
إذا نحن نتكلم هنا عن أرض بدأت كل القبائل العرب تؤمها منذ زمن سيدنا إبراهيم إلى أن بعث الله نبينا محمداً بالإسلام وأنزل عليه القرآن ، فلقد حظيت قريش بشرف خدمة الحجاج الآتين إلى كعبته الشريفة وبذلك قدّر للهجتهم أن تختلط مع لهجات العرب الآخرين بكل ما فيها وبما أننا أوضحنا كيف أخذت قريش من لهجات العرب أفضلها وأبعدها عن الكسر والثقل فلقد كانت قريش أكثر العرب احتكاكاً مع غيرهم من القبائل ولذلك كانت أوسعهم اضطلاعاً على لهجات غيرهم .
ج. العامل الثقافي :
لا يمكن لنا أن نتحدث عن العامل الثقافي دون أن نركّز على أهم مركز للثقافة في كل الجزيرة العربية وهو سوق عكاظ ، حيث كانت القبائل العربية تجتمع في تلك السوق وتتبارز بالشعر والخطابة بلهجة قريش وذلك مما أعطى للهجة قريش انتشاراً واسعا بين القبائل العربية واعتبارها اللهجة الأسهل للتفاهم بين القبائل والتقارب بين اللهجات ومن جانب آخر فإن قريشاً كانت تستمع لما يخرج به عرب القبائل الأخرى من اختيار لأحسن الألفاظ لكي يظهروا مدى قوى لهجاتهم فكانت تتخير قريش أفضلها وتضيفها إلى لهجتها.
د. العامل الاقتصادي :
مع فضل الحج للكعبة الشريفة في مكة ، فلقد أصبحت قريش مركزاً تجارياً هائلا بين القبائل فلقد كانت القوافل العربية تنطلق من قريش في الشتاء وفي الصيف، واختلاط التجار القرشيين مع غيرهم من التجار جعل من لغتهم أوسع انتشاراً ، فلقد كانت التجارة على شقيّها من حيث التجار القادمين لمكة أو تجار مكة الخارجين منها إلى البلاد الأخرى والقبائل البعيدة مما أتاح لفصحاء قريش القدرة على انتقاء ما أعجبهم من لهجات القبائل الأخرى وتصفية لغتهم أيّما صفاء .
لعل هذه هي أهم العوامل التي أثرّت وبشكل جليّ في تشكّل لهجة قريش وتفردها عن غيرها من اللهجات ، والتي أدت فيما بعد من اعتبارها أكثر اللهجات فصاحة واقتراباً من اللهجة الأم ، والتي وصلت إلى مرحلة من المراحل لكي تكون اللهجة الأوسع انتشاراً بين القبائل العربية باعتبارها لهجة مركزية وشاملة .
0 komentar:
Posting Komentar